التشريع الجنائي ومسطرة الصلح
ان من المقاصد السامية التي تهدف العدالة الجنائية الى تحقيقها هو الحفاظ على حقوق الضحايا وصونها من كل ضياع ولو عبر تسوية تصالحية دون الالتجاء الى المسطرة القضائية لاسترجاع تلك الحقوق كل ذلك للحفاظ على علاقات اجتماعية متينة وقوية ومستمرة ومحاربة روح الكراهية والتشاحن والنزعات الانتقامية وكذلك تخفيف العبء على المحاكم وربح الوقت، وجعل القضاء يركز مجهوده على القضايا الأساسية، وتخفيف الاكتظاظ الذي تعاني منه السجون وتحقيق نوع من التوازن بين حقوق الإنسان وحقوق المجتمع.فالنزاعات التي تقع بين الافراد وترفع الى المحاكم من شأنها استنفاذ كثير من الجهد والوقت وتساهم بشكل كبير في قطع للروابط العائلية والعلاقات الانسانية ،فالمصلحة العامة قد لا تتحقق بصدور حكم في نزاع ما بل يزيد ذلك في تطور ذلك النزاع وتشعبه واستمراره واتساع أطرافه .
من هنا لجأ المشرع الى احداث مسطرة الصلح في بعض الجنح البسيطة التي تعتبر إحدى الآليات البديلة لفض النزاعات والتي ما فتئت تأخذ لها مكانة متميزة في فض النزاعات ويتعلق الأمر بالوساطة، إذ بدأت تترسخ نظرة عالمية جديدة تتمثل في إيجاد ميكانيزمات بديلة - خارج الإطار التقليدي للقضاء والمحاماة - تساهم في حل النزاعات والتخفيف على المحاكم...
الصلح في القوانين الجنائية: ترى الدراسة أن القوانين الجنائية كلها من النظام العام ولا يملك الأطراف صلاحية تحديد نطاقها للاضطراب الاجتماعي الذي قد تخلقه، وفي جرائم معينة فإن المشرع، ونظرا للطابع الاجتماعي والأسري الذي يهيمن عليها، سمح للأطراف بإبرام مصالحة بشأنها يترتب عنها وضع حد للمتابعة، و من أهم هذه الجرائم الواردة في القانون الجنائي قضايا إهمال الأسرة (الفصل 481 من ق.ج)، الخيانة الزوجية (الفصل 491 من ق.ج) والسرقة بين الأقارب (الفصل 535 من ق.ج) فهذه الجرائم لا تحرك المتابعة بشأنها إلا بناء على شكوى من المجنــي عليه و يؤدي التنازل عن الشكاية إلى انقضاء المتابعة وسقوط الدعوى العمومية.
الصلح في القوانين المدنية : يعتبر الميدان المدني الأصيل لأعمال الصلح، حسب الدراسة، فهناك مقتضيات مدنية توجب اللجوء إلى الصلح، ومقتضيات مدنية أخرى تجيزه فقط.
وهكذا يمكن إيجاز المقتضيات المدنية التي توجب الصلح في مقتضى الفصل 212 من ق.م.م المتعلق بمحاولة التصالح عند تقديم مقال التطليق لدى المحكمة أو عند تقديم مقال الطلاق من طرف الزوج لدى السيد قاضي التوثيق (المادة 48 من م.ح.ش)،
وفي القضايا الاجتماعية نص الفصل 277 من ق.م.م على وجوب إجراء محاولة التصالح بين الأطراف من قبل القاضي قبل البت في النزاع وفي قضايا الكراء المعد للاستعمال التجاري والصناعي نص الفصل 27 من ظهير 24 ماي 1955 على إجبارية الصلح، كما نص ظهير 2 أكتوبر 1984 المتعلق بالتعويض عن حوادث السير في المادة 18 على ضرورة لجوء شركة التأمين لمحاولة المصالحة بينها وبين المطالبين بالتعويض.
إلى جانب هذه المقتضيات التي أوجبت مسطرة الصلح هناك مقتضيات قانونية أجازت اللجوء إلى الصلح، منها قانون التحفيظ العقاري ظهير 12 غشت 1913 الذي نص في الفصل 31 منه على إمكانية دعوة المحافظ لكل من المتعرضين وطالبي التحفيظ لإجراء الصلح وتحرير محضر بذلك في حالة نجاحه، وإذا فشل الصلح وجه المحافظ الملف إلى المحكمة..
الصلح في المهن الحرة: نص الفصل 63 من ق.م.م على اعتماد الخبير الذي تنتدبه المحكمة للاستئناس برأيه في نقطة ذات صبغة تقنية على اعتماد الصلح قبل إنجاز المهمة المسندة إليه ويتعين عليه الإشارة في تقريره المرفوع للمحكمة على إجراء محاولة الصلح أو تعذرها.
وأخيرا نصت المادة 10 من الظهير الشريف رقم 1.01.298 الصادر بتاريخ 9 دجنبر 2001 بشأن إحداث ديوان المظالم على قيام هذا الأخير بكل المساعي الحبية للتوفيق بين المتظلمين والإدارة استنادا لقواعد القانون ومبادئ العدل والإنصاف.
ومن أجل توسيع هامش العدالة التصالحية وتوفير فرص أكثر لرأب الصدع الاجتماعي واتاحة الامكانية لتعاقد مبني على نبذ الفرقة والتشرذم انطلاقا من منهج مؤسس على التواصل والتفاوض.
وقد أحدث المشرع هذه الالية التي نصت عليها المادة 372من قانون المسطرة الجنائية والتي يمكن بمقتضاها للمحكمة في بعض الجرائم أن تتيح هذه الامكانية اثناء سريان الدعوى اذا تنازل الطرف المتضرر وقد نصت على أنه "اذا كان الأمر يتعلق بمتابعة من أجل جنحة من الجنح المنصوص عليها في المادة41 من القانون فانه يمكن للمحكمة المعروضة عليها القضية بناءا على ملتمس تقدمه النيابة العامة في حالة تنازل الطرف المتضرر من الفعل الجرمي عن شكايته أن توقف سير اجراءات الدعوى العمومية مالم تكن قد بثت فيها بحكم نهائي"
وهذا التدبير يهم تهما محددة على سبيل الحصر تتسم بكونها لا تعتبر جنحا خطيرة ويقتصر ضررها الظاهر على أطرافها ، كما أن هذا الاجراء يعتبر حل وسط بين قراري الحفظ والمتابعة اللذين تملكها النيابة العامة.
إرسال تعليق